بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، نعوذ بالله من شورو أنفسنا ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد هادي له . وأشهد ان لا إله ألا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
وبعد ،
فهذه هي الطبعة السادسة من هذا الكتاب ، الذي أسأل الله أن ينفع به مؤلفه وناشره وقارئه . وإن "يكيفوا" سولكهم وفقا لأحكامه ، غير مبالين بالأفكار الدخيلة ، والمذاهب المستوردة .
ويزيد من قيمة هذا الإقبال أن جهودا جبارة تبذل ، وأموالا طائلة ترصد ، وطاقات هائلة تجمد ،من القوى المعادية للإسلام على اختلاف أهدافها وطرائقها ، وتعدد ألوانها وأسمائها ، للصد عن سبيل هذا الدين ، وتعويق الدعوة إليه، وقطع الطريف على دعاته ، وإثارة الشبهات والأكاذيب من حوله ، وتشويه عقيدته وشريعته وحضارته وتاريخه ، يريدون أن ترتد الشعوب المسلمة عن دينها ، كما ارتد كثير من حكامها الذين اتخذوا القرآن مهجورا ، واتخذوا غير الإسلام منهجا ، وغير محمد صلى الله عليه وسلم إماما .
فإذا أخفقت هذه المحاولات الجهنمية المخططة المدعومة فينا هدفت إليه من تكفير الجماهير المسلمة ، وراج -مع هذا كله- الكتاب الإسلامي ، بل ظل هو الكتاب الأول في سوق النشر والتوزيع ، كما تدل الأرقام والإحصاءات ، على حين تظهر كتب كثيرة موجهة ، تنفق عليها دول ومؤسسات كبيرة عشرات الألوف ومئاتها ، فلا تنفق لها سوق ، ولا تجد لها قبولا ، فهذا ما نسر له ونحمد الله تعالى عليه .
أجل ، إنها نعمة الله يجب أن نتلقاها بالحمد والشكر . فإن معناها أن جماهيرنا المسلمة لا تزال بخير ، وأنما الفساد والانحراف في القيادات العميلة الفروضة عليها . وهي قيادات مصيرها حتما إلى الزوال .
ومما يسرني كذلك أن جماعة من إخواننا الباكستانيين والأتراك بعثوا إلي يستاذنونني في ترجمة الكتاب على الأوردية والتركية ، فلم أتردد في الإذن لهم . فإن اختلاف اللغات لا يجوز أن يقف مانعا دون التبادل الفكري بين المسلمين ، الذي هو إحدى الخطوات اللازمة في طريق الوحدة الإسلامية المنشودة .
وقد تميزت هذه الطبعة بأن جعل المكتب الإسلامي أرقام الأحاديث والأثار التي عني بتخريجها المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني على هامش الكتاب ، ليسهل الرجوع إليها بعد طبع التخريج . فجزى الله الشيخ الألباني وصاحب المكتب الإسلامي خيرا عن عملهما .
فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله . ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ).
يوسف القرضاوي
إلى أعلى
مقدمة الطبعة الأولى بسم الله الرحمن الرحيم
أبلغتني الإدارة العامة للثقافة الإسلامية بالأزهر الشريف، رغبة مشيخة الجامع الأزهر أن ساهم في مشروع علمي يتضمن تأليف كتب أو كتيبات مبسطة، تترجم إلى اللغة الإنجليزية، للتعريف بالإسلام وتعاليمه في أوروبا وأمريكا تبصرة للمسلمين هناك، ودعوة لغير المسلمين.
والحق أن مشروع هذه الكتب والكتيبات مشروع نبيل الهدف، جليل الشأن، وكان من الواجب أن يتحقق منذ زمن بعيد. فالمسلمون في أوروبا وأمريكا لا يعرفون من الإسلام إلا أقل القليل، وهذا القليل لم يسلم من المسخ والتشويه ومن وقت قريب كتب إلينا صديق أزهري مبعوث إلى ولاية من الولايات المتحدة يقول: إن معظم المسلمين في هذه الولاية يتكسبون من فتح البارات والتجارة في الخمور، ولا يشعرون أن ذلك من أكبر المحرمات في الإسلام.
ويقول: إن الرجال المسلمين يتزوجون بمسيحيات ويهوديات -ربما بوثنيات- ويتركون بنات المسلمين يتعرضن للكساد، ويفعلون ويفعلون.
وإذا كان هذا شأن المسلمين فما بالك بغير المسلمين؟ إنهم لا يعرفون إلا صورة دميمة الوجه، شائهة الخلقة عن الإسلام ورسول الإسلام، وأتباع الإسلام. صورة تعمل الدعايات التبشيرية والاستعمارية المسمومة على تثبيتها وزيادة تشويهها، باذلة في ذلك كل جهد، سالكة كل سبيل. في الوقت الذي نحن فيه عن هذا غافلون وفي غمرة ساهون.
أما وقد آن الأوان للبدء في هذا المشروع، وتحقيق هذا الأمل الذي توجبه الدعوة إلى الإسلام، وتلح في القيام به، فإنها لخطوة مباركة جديرة أن نحيي القائمين على رعايتها وتنفيذها في الأزهر وخارجه، طالبين منهم المزيد من هذه العناية، راجين لهم دوام التوفيق.
هذا وقد كان الموضوع الذي عهدت إلي إدارة الثقافة أن أكتب فيه هو: (الحلال والحرام في الإسلام) وأوصت في كتبها إلي أن يراعى في الكتابة التبسيط، وسهولة الإقناع، والمقارنة مع الأديان والثقافات الأخرى.
وربما موضوع (الحلال والحرام) سهلا لأول وهلة، ولكنه في الواقع صعب المرتقى، فلم يسبق لمؤلف في القديم أو الحديث أن جمع شتات هذا الموضوع في كتاب خاص. ولكن الدارس يجد أجزاءه موزعة في أبواب الفقه الإسلامي كلها، وبين ثنايا كتب التفسير والحديث النبوي.
ثم إن موضوعا كهذا يضطر الكاتب إلى أن يحدد موقفه من أمور كثيرة اختلف في حكمها علماؤنا القدامى، واضطربت فيها وفي تعليلها آراء المحدثين.
وترجيح رأي على غيره في مسائل الحلال والحرام يحتاج إلى أناة وطول بحث ومراجعة، بعد أن يتجرد الباحث لله في طلب الحق، جهد الإنسان.
وقد رأيت معظم الباحثين العصريين في الإسلام والمتحدثين عنه يكادون ينقسمون إلى فريقين:
فريق خطف أبصارهم بريق المدنية الغربية، وراعهم هذا الصنم الكبير، فتعبدوا له، وقدموا إليه القرابين ووقفوا أمامه خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة، هؤلاء الذين اتخذوا مبادىء الغرب وتقاليده قضية مسلمة لا تعارض ولا تناقش، فإن وافقها الإسلام في شيء هللوا وكبروا، وإن عارضها في شيء وقفوا يحاولون التوفيق والتقريب، أو الاعتذار والتبرير، أو التأويل والتحريف، كأن الإسلام مفروض عليه أن يخضع لمدنية الغرب وفلسفته وتقاليده. ذلك ما نلمسه في حديثهم عما حرم الإسلام من مثل: التماثيل واليانصيب والفوائد الربوية والخلوة بالأجنبية، وتمرد المرأة على أنوثتها، وتحلي الرجل بالذهب والحرير … (الخ) ما نعرف. وفي حديثهم عما أحل الإسلام من مثل: الطلاق وعدد الزوجات.. كأن الحلال في نظرهم ما أحله الغرب والحرام ما حرمه الغرب. ونسوا أن الإسلام كلمة الله، وكلمة الله هي العليا دائما، فهو يتبع ولا يتبع، ويعلو ولا يعلى، وكيف يتبع الرب العبد، أم كيف يخضع الخالق لأهواء المخلوقين؟ (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن) المؤمنون:71. (قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق؟ قل الله يهدي للحق. أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى؟ فما لكم كيف تحكمون) يونس:35.
هذا فريق. والفريق الثاني جمد على آراء معينة في مسائل الحلال والحرام. تبعا لنص أو عبارة في كتاب، وظن ذلك هو الإسلام، فلم يتزحزح عن رأيه قيد شعرة، ولم يحاول أن يمتحن أدلة مذهبه أو رأيه، ويوزنها بأدلة الآخرين ويستخلص الحق بعد الموازنة والتمحيص.
فإذا سئل عن حكم الموسيقى أو الغناء أو الشطرنج أو تعليم المرأة أو إبداء وجهها وكفيها أو نحو ذلك من المسائل، كان أقرب شيء إلى لسانه أو قلمه كلمة (حرام) ونسي هذا الفريق أدب السلف الصالح في هذا، حيث لم يكونوا يطلقون الحرام إلا على ما علم تحريمه قطعا. وما عدا ذلك قالوا: فيه نكره، أو لا نحب، أو نحو هذه العبارات.
وقد حاولت ألا أكون واحدا من الفريقين.
فلم أرض لديني أن أتخذ الغرب معبودا لي، بعد أن رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا.
ولم أرض لعقلي أن أقلد مذهبا معينا في كل القضايا والمسائل أخطأ أو أصاب، فإن المقلد -كما قال ابن الجوزي- (على غير ثقة فيما قلد فيه، وفي التقليد إبطال منفعة العقل، لأنه خلق للتأمل والتدبر. وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة).
أجل، لم أحاول أن أقيد نفسي بمذهب فقهي من المذاهب السائدة في العالم الإسلامي ذلك أن الحق لا يشتمل عليه مذهب واحد. وأئمة هذه المذاهب المتبوعة لم يدعوا لأنفسهم العصمة، وإنما هم مجتهدون في تعرف الحق، فإن أخطؤوا فلهم أجر، وأن أصابوا فلهم أجران.
قال الإمام مالك: (كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم). وقال الإمام الشافعي: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب).
وغير لائق بعالم مسلم يملك وسائل الموازنة والترجيح أن يكون أسير مذهب واحد، أو خاضعا لرأي فقيه معين. بل الواجب أن يكون أسير الحجة والدليل. فما صح دليله وقويت حجته، فهو أولى بالإتباع. وما ضعف سنده، ووهت حجته، فهو مرفوض مهما يكن من قال به، وقديما قال الإمام علي رضي الله عنه: (لا تعرف الحق بالرجال، بل أعرف الحق تعرف أهله).
وقد حاولت أن أراعي ما طلبته إدارة الثقافة قدر ما استطعت، فعنيت بالتدليل والتعليل والموازنة، مستعينا بأحدث الأفكار العلمية والمعارف العصرية. وقد كان جانب الإسلام والحمد لله مشرقا وضاء يحمل الدليل الناصع، على أنه دين الإنسانية العام الخالد (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة) البقرة:138.
والحلال والحرام معروف في كل أمة من قديم، وإن اختلفوا في مقدار المحرمات وفي نوعها، وفي أسبابها، وكان الكثير منها مرتبطا بالمعتقدات والخرافات والأساطير.
ثم جاءت الأديان السماوية الكبرى بتشريعات ووصايا عن الحلال والحرام ارتفعت بالإنسان من مستوى الخرافات والأساطير والحياة القبلية إلى مستوى إنساني كريم، ولكنها كانت في بعض ما أحلت وحرمت مناسبة لعصرها وبيئتها، متطورة بتطور الإنسان، وتغير الأحوال والأزمان. فكان في اليهودية مثلا محرمات مؤقتة عاقب الله بها بني إسرائيل على بغيهم، فلم تكن تشريعا قصد به الخلود ولهذا ذكر القرآن قول المسيح لبني إسرائيل: (ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم). آل عمران:50.
فلما جاء الإسلام كانت البشرية قد بلغت أشدها، وصلحت لأن ينزل الله عليها رسالته الأخيرة، فختم تشريعه للبشر بشريعة الإسلام الخالدة. وفي هذا نقرأ قوله سبحانه بعد أن ذكر ما حرم من الأطعمة في سورة المائدة (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) المائدة:3.
وفكرة الإسلام في الحلال والحرام فكرة بسيطة واضحة. إنها جزء من الأمانة الكبيرة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان. أمانة التكاليف الإلهية واحتمال مسؤولية الخلافة في الأرض، تلك المسؤولية التي على أساسها يثاب الإنسان ويعاقب، ومن أجلها منح العقل والإرادة وبعثت له الرسل، وأنزلت الكتب، فليس له أن يسأل: لم كان الحلال والحرام؟ ولم أترك طليق العنان؟ فهذا من تتمة الابتلاء الذي خص به المكلفون وتميز به هذا النوع من مخلوقات الله الذي ليس روحا خالصة كالملك، ولا شهوة خالصة كالبهيمة، وإنما هو شيء وسط، يستطيع أن يرتقي فيكون كالملائكة، أو خيرا وأفضل، وأن يهبط فيكون كالأنعام أو أضل سبيلا.
ومن جهة أخرى فإن الحلال والحرام يدور في فلك التشريع الإسلامي العام وهو تشريع قائم على أساس تحقيق الخير للبشر، ودفع الحرج والعنت عنهم، وإرادة اليسر بهم. يقوم على درء المفسدة وجلب المصلحة، مصلحة الإنسان كله، جسمه وروحه وعقله، ومصلحة الجماعة كلها، أغنياء وفقراء وحكاما ومحكومين، ورجالا ونساء، ومصلحة النوع الإنساني كله، بمختلف أجناسه وألوانه، وفي شتى أقطاره وبلدانه، وفي كل عصوره وأجياله.
فقد جاء هذا الدين رحمة إلهية شاملة لعباد الله في آخر طور من أطوار الإنسانية. وأعلن ذلك لرسوله فقال
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء 107. وقال رسوله: (إنما أنا رحمة مهداة)
وكان من آثار هذه الرحمة أن وضع الله عن هذه الأمة الخاتمة كل آصار التعنت والتشديد، وأوزار الإباحية والتحلل، التي أدخلها الوثنيون والكتابيون على الحياة، فحرموا الطيبات وأحلوا الخبائث قال تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة، والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) الأعراف:156.
وكان دستور الإسلام في الحلال والحرام يتمثل في هاتين الآيتين اللتين صدرنا بهما هذا الكتاب (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) الأعراف:32. (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم، والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) الأعراف:33.
وبعد فأعتقد أن أهمية موضوع الحلال والحرام تجعل هذا الكتاب على صغره يسد فراغا في مكتبة المسلم الحديثة ويحل مشكلات كثيرة تعرض المسلم في حياته الشخصية والأسرية والعامة ويجيب على أسئلته الكثيرة: ماذا يحل لي؟ وماذا يحرم علي؟ وما حكمة تحريم هذا، وإباحة ذاك؟
ولا يسعني في ختام هذه المقدمة إلا أن أشكر لمشيخة الأزهر وإدارة الثقافة الإسلامية ما أولياني من ثقة باختياري للكتابة في هذا الموضوع البكر.
وأرجو أن أكون بما كتبت قد أديت ضريبة الثقة، وحققت الغرض المنشود.
والله تعالى أسأل أن ينفع بهذا الكتاب، وأن يرزقنا السداد في القول والعمل، ويجنبنا شطط الفكر والقلم، وأن يهيء لنا من أمرنا رشدا، إنه سميع الدعاء.
صفر الخير 1380هـ
آب 1960م
يوسف القرضاوي
إلى أعلى
تعريفات
الحلال: هو المباح الذي انحلت عنده عقدة الحظر، وأذن الشارع في فعله.
الحرام: هو الأمر الذي نهى الشارع عن فعله نهيا جازما، بحيث يتعرض من خالف النهي لعقوبة الله في الآخرة، وقد يتعرض لعقوبة شرعية في الدنيا أيضا.
المكروه: إذا نهى الشارع عن شيء ولكنه لم يشدد في النهي عنه فهذا الشيء يسمى (المكروه) وهو أقل من الحرام في رتبته وليس على مرتكبه عقوبة كعقوبة الحرام، غير أن التمادي فيه، والاستهتار به من شأنه أن يجرىء صاحبه على الحرام.